محمد شكري، أو كما أحب أن أطلق عليه لقب أمير الأدباء

بقلم نسيم أگريج

 ثمة من الناس من إتخذ القلم و الورقة للتعبير عن الواقع الإجتماعي المر، و الحالة النفسية المتأزمة، للتخفيف من وطأة ثقل الحياة ولو قليلاً، و تنفس الصعداء و إن كان ذلك عصيّ. و من بين هؤلاء؛ محمد شكري الذي ما لبث أن حلق في سماء، و ترك بصمات آدبية لازالت لحد الآن قائمة” كتب في رفوف المكتبات، و على الهوامش عند بائعي الكتب”، و أكاد أجزم أنه ليس ثمة من بيت يخلو من كتبه.
إنسان رشف من ينابيع المرارة للأبد، و قذفته الجدران، و الدروب الضيقة، و أصفعته الآيادي على خديه المثخن بتجاعيد الزمن حد الثمالة، قبل أن تزيده الحياة صفعات عدد، و أنه لم يرى يوم جميلا، منذ أن غادر الريف، الذي كان هو الآخر يذق من الويلات. فلا أهل الأرض أرحموه، و لا السماء أنزلت عليه سكينة. ليرمي به القدر في شوارع طنجة، و تطوان، العابقان بنفحات التاريخ، حتى بات لا يملك من الدنيا شيئاً، سوى ذكرى مؤلمة، و حالة تدعو إلى الرثاء ، و كان ذلك يضر ولا يفيد، و ينخر جسم المرء، و يآكل منه، كما يفعل السرطان. بكى يأساً، و شقاءاً، عجزاً، و فقراً، حتى ذبلَِ كوردة جميلة في الحديقة، و تهاوت عليه المصائب، ضرب مبرح حد الموت من الناس و رجال الشرطة، و قذفه بعبارات يخجل المرء من ذكرها” ولد لق*بة، متشرد، شفار…”.
و بما أن المصائب لا تأتي فرادى، زاده الآب من اللكمات على الوجه، و حرمانه من التحصيل العلمي، و فوضى عارمة تقع حينما يفعل به الخمر كارثة، و ينهال على أمه بالضرب، و هو ينظر بعين دامعة لا يحرك ساكناً. ترعرع بين الشوارع، و سرق ليروي ضمآه، و يلبي حاجياته”لا إثم في مجتمع قاتل، لم يرحم أحد”، و أحيانا يشتغل لساعات طوال بدراهيم، لا تكد تكفيه حتى لشراء السجائر، و ملء رغيف الخبز بالبيض المسلوق، و الصوصيت. و كيف يمكنه أن يعيش في هناء، و يهدأ له بال، لا هو و لا أمه، التي إلتزمت زاوية الغرفة الخشنة تنتظر يومها.
طنجة، الحافة أحياناً، و المدينة القديمة أحيانا أخرى، قضى فيها من السنين الجميلة، التي أنسته قليلا مرارة الصبا، بين كؤوس الخمر ليلا، و أفخاذ العاهرات، و صباحا بين صفحات الجرائد و ما تحويها من مستجدات، مع فنجان القهوة، و الكيف، و السجائر، و موسيقى الزمن الجميل، و لعبة البارتشي، و اللكارطة، و إلقاء شعرا جميلا على زبناء مقهى” كرستبال”، بجلاببهم الرثة، و كتابة رسائل حب، الى من يدفع له مقابلاً” دراهم، سجائر”. تطوان، المدينة القديمة، و الفدان، نام بين دروبهما، و خلع لباس الحشمة، و صار من “الشمكارين” الذين لا خوف عليهم فيما ترمي إليهم الحياة، و إكتسب شخصية من حديد، كافية للإحتكاك بواقع لم يكن يناسبه في البداية، و تشبع بالتجاريب حد التخمة.
صحيح، أن الحياة لم تمنحه ما يريد، و رفضته كما رفضوه أبناء المجتمع، و لكن في النهاية أنصفته قليلا، ليحظي بفرصة العمر”المدرسة”، و إن كان له شوارب، ما تجمع به من نفايات مدينة العرائش، و لكن لم يكن ذاك حاجزا أبدا، حتى و إن سخر منه الناس بعد القدر. تحدى، و قرأ، و ألف في الآدب، لدرجة أن المرء لم يصدق، حتى قرأ بعينه ما سمع من الالسنة و هي تلهث.
الخبز الحافي، أو الكتاب الملعون، الذي كان أول عمل أدبي له، إستطع، أن ينتشر كإنتشار النار في الهشيم، بالرغم من عدم ضربه للحياء حساب، و لقي إقبالا في الأوساط العامة، لتتوالى سلسلة التآليف، ما أن إعترف به من كبار الآدب العالمي، ليخطفه الموت منا، و نحن لم نشبع منه حتى.
Loading...